جاكلين آن ستدال مؤرخة رياضيات بريطانية ألفت تسعة كتب قبل وفاتها عام 2014م معظمها تدور حول موضوع تاريخ الرياضيات، وهو موضوع شيق وأساسي لمن أراد أن يتعلم ويستوعب أسس الرياضيات وفروعها. ومن ألطف مجموعتها كتاب صغير عنوانه (تاريخ الرياضيات مقدمة صغيرة جداً) مرت من خلاله بإيجاز على أبرز محطات تطور هذا العلم الذي يعد عمود العلوم الفقري وشفرة وصف الطبيعة وتاج المنطق وأيقونة الهندسة.
رغم أنها نوهت - على مضض عاجل - بمساهمات المسلمين والعرب في حفظ علوم اليونان الرياضية وتطويرها إلا أنها أخفقت بالإحاطة بالإرث الإسلامي الكبير في حفظ وتطوير علم الرياضيات، فلم تُجهد قلمها في أن تُضَمن فصول كتابها ما يستحقه إرث المسلمين الرياضي من ثناء.
استرعى انتباهي وهي تقارن ترجمة العرب لكتاب "العناصر" لإقليدس الإسكندري بترجمة أوروبية في عصر النهضة الأوروبية قولُها: "من غير المرجح أن العربية - لغة القبائل البدوية - احتوت كلمات جاهزة لمفاهيم الهندسة الإغريقية، وعلى الرغم من ذلك، فإن المترجمين العرب حفظوا نصوصاً عديدة من الاندثار". صعقت من هذه العبارة الجنائية في حق اللغة العربية لأن سياق حديثها في الكتاب يبين أنها تعلم أن حركة الترجمة جاء معظمها في أواخر القرن الثاني الهجري بعد هدأة الفتوحات الإسلامية واستقرار خلافة بني العباس في عصر ازدهار ونضوج الحضارة العربية الإسلامية وسموها عندما كانت بغداد حاضرة الدنيا وقبلة العلوم.
السيدة جاكلين - كما يظهر في كتابها - مطلعة على تعدد الأعراق والأجناس والأمم التي اعتنقت الإسلام وأصبحت جزءا من النسيج المجتمعي المسلم الكبير بشتى أعراقه وإثنياته المتعددة، ولا أظن أن خيالها ذهب بها إلى أن العرب ترجموا كتب الإغريق وهم يرعون الإبل في صحراء جزيرتهم. إذاً لم هذا التناقض ومحاولة الانتقاص من عالمية اللغة العربية وعظمتها ليتصور القارئ أن الترجمة قام بها مجموعة من رجال القبائل العربية البدوية الجاهلية فتجعله في حالة ذهنية لا ترى إلا طرفة بن العبد يُمْضِي همه على ظهر ناقته والنابغة الذبياني يحكم بين الشعراء في خيمته في سوق عكاظ وعنترة بن شداد شاهراً سيفه يجالد فرسان بني ذبيان.
المؤلفة حين خرجت - عمداً - في حديثها عن تخصصها وقعت في خطأ فادح في فن لا تفقهه ولا تعرف قواعده، ومن الواضح أنها لم تطلع على خصائص وأصول وتراكيب وهندسة ومعاني ومرونة وأسرار وسعة وجمال اللغة العربية التي فُتن بها العجم قبل العرب وهام بها الروم والفرس قبل أهلها العرب.
ولو أن "جاكي" الأعجمية تعلمت اللغة العربية ثم تمعنت في أعمال ثلاثة من أعظم عباقرتها من ذوي الأصول الأعجمية - وما أكثرهم في تاريخنا العظيم - لما تجرأت على ما قالت، ولأدركت أن هؤلاء رغم أصولهم غير العربية هم أعظم من فقه عالمية اللغة العربية وتفوقها على لغات البشر تركيباً ونحواً وعلةً وبلاغةً. هؤلاء العباقرة الثلاثة هم سيبويه الفارسي، وابن جني الرومي وعبدالقاهر الجرجاني الفارسي. هؤلاء الثلاثة لا علاقة مكانية تجمعهم بالصحراء ولا بمجالس الشعراء الجاهليين في سوق مجنة أو ذي المجاز ولكن تربطهم بالعربية روابط الروح والعقل.
ولو تأملت - السيدة الإنجليزية - في جذور كلمات العربية وتعدد معانيها ودلالة ألفاظها وقدرتها على الاشتقاق والتعريب، وتأملت في عبقرية اللغة العربية في ترجمتها لأعمال اليونان وغيرهم لم تكن لتجرؤ أن تدعي أن اللغة الأعظم والأشرف والأرقى التي وسعت كتاب الله لفظاً وآيةً يعجز قاموسها أن يصف دوائر أرشميدس ومثلثات فيثاغورس وحسابات طاليس الملطي.
هؤلاء العظماء الثلاثة وغيرهم من ذوي الأصول الأعجمية عندما نظروا لجزء النحو من اللغة العربية مثلاً ومن زاوية عقلية منطقية مجردة، توصلوا لقواعد يوزن من خلالها كلام العرب إعراباً، كما سبق سيبويه الفارسي العرب الأقحاح وصفاً للغتهم في كتابه الرائد "الكتاب"، وأبدع ابن جني الرومي تعليلاً منطقياً لتراكيب الجمل في سفره العظيم "الخصائص"، وبرع الفارسي الجرجاني في تقعيداته البلاغية للتراكيب النحوية في "دلائل الإعجاز" على حد وصف علي الشدوي في كتابه تاريخ النحو العربي.
ألم تعلم السيدة جاكلين وهي تفاخر بتفوق ترجمات عصر النهضة الأوروبية على الترجمات العربية لمخطوطة من كتاب "العناصر" وجدت مكتوبة باللغة الإغريقية ومحفوظة في أديرة بيزنطة في القرن التاسع الميلادي أن ابن جني ذا الأصول الرومية (البيزنطية) لا يماثل فهمه لكتاب سيبويه ذي الأصول الفارسية أي فهم آخر في تاريخ النحو العربي.
الحضارات تمر بمراحل ثلاث: مرحلة بربرية وهي فرض الفكر على الآخرين بالقوة، ثم مرحلة النضج الحضاري وهي مرحلة الاستيعاب والتواصل الثقافي مع الآخر، ثم مرحلة الانحطاط وهي مرحلة عدم الاكتراث لأي قيم بعد ذلك. السيدة جاكلين في نظري هي ومن أزَّ اللاجئ العراقي الذي قام بإحراق أوراق المصحف الشريف في السويد والتي - بالمناسبة - أُدخلت الكاثولوكية في القرن الحادي عشر الميلادي بعد حالة وثنية لقرون طويلة، ثم خرجت منها للبروتستانتية في القرن السادس عشر ثم تحولت إلى لا دينية في العصر الحديث ينطلقان من نفس المبدأ. إن الباحثة التي حكمت على قصور اللغة العربية - لغة القبائل البدوية على حد زعمها - ومن يقف خلف الدمية اللاجئة مارسا الحالة البربرية التي ظهرت في محاولة فرض فكرهما- بتجاهل أو جهل أو عنصرية - على المخالف لأنهما لم يُعَنِيا نفسيهما لفهم لغة القرآن كما فهمها وعشقها وآمن بها العباقرة الثلاثة ذوو الأصول الاعجمية وإلا لما بقيت السيدة جاكلين مقيدة بحالة الاستعلاء العنصري الساذج، ولما بقي المشرد المدفوع صوتاً نشازاً لحالة من البربرية المعاصرة.
وقفة تأمل:
"قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا".