كحالة طبيعية من التمرد البشري في تلك المرحلة ، وكحال كل شاب يمر بالفترة العمرية والتي تدعى المراهقة ، كنت اتلقى التوجيه والارشاد بشكل يومي من والدي - رحمة الله الواسعة عليه- حول كل ما يدور في حياتي من علاقات وانطباعات وحتى التعاملات المالية ، كنت اتلقاها بشيء من التمعض وبتململ .
لم اكن اعلم حينها ان تلك طبيعة الوالد ولهفته على سلامتي ونجاحي في الحياة هي ما يحدوه رحمه الله الى تحمل عبء ذلك يومياً وبلا تردد او تهاون ، ولكن ماكان يشغل بالي حينها استمرار حديثه حول مستقبلي الشخصي وترتيبه للكثير الكثير من محطات حياتي ما أثار تساؤلاً تكرر كثيراً في ذهني حينها :
هل والدي يعلم الغيب ؟
لم يمنحن الوقت فرصة أطول معه ، ولا الحياة أمتعتني بصحبته اكثر والحمد لله على كل حال ، فترجل عن ركابه باكراً - في نظري البشري- لأكمل مشوار حياتي بعرجة تشوهها رغم عنفوان الشباب فيها أيام رحيله .
لاحظت مع مرور الوقت ان حياتي تسير بنفس المحطات التي كان والدي يحدثني دائماً عنها ، بل ان بعض الاحداث تقع واشاهدها واقعاً حالياً بينما قد رسمه ابي في ذهني منذ فترة طويلة وكأنه يرى ذلك امام عينيه ما جعل ذكراه وصورته تتجلى أمامي باليوم مرات ومرات ، ويتكرر علي نفس التساؤل القديم : هل كان والدي يعلم الغيب ؟
تقدم العمر وأصبحت أباً - بفضل الله تعالى - ومع تقدم ابني بالعمر امام عيني اصبحت تخرج مني توجيهات له وأحدثه بأشياء كثيرة ، وعندما أمعنت النظر فيها واذا بها نفس طريقة والدي رحمه الله عندما كنت في مثل سن ولدي .
عرفت حينها ان حبك لابنك وحرصك اللامتناهي عليه هو ما يجعلك تستشف وتستشرف مستقبله وأحداث حياته محاولاً قدر المستطاع تجنيبه المعاناة والكدر فيها وهذا ماكان ابي يسعى جاهداً لتحقيقه لي وليس لنفسه .
رحم الله والدي رحمة واسعة وأسكنه من الجنان أعلاها ومن المنازل أفخرها وحباه من السعادة الأخروية أعظمها .